في الماضي القريب، كان يُعتقد أن نمو وتطور الدماغ يحدث في السنوات الأولى من العمر. في الواقع، لم نكن نتوفر بعد على التكنولوجيا اللازمة لسبر أغوار الدماغ ! لكن باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، أصبح بإمكان علماء الأعصاب الآن مراقبة الدماغ البشري من
الداخل ومتابعة تغيره مع التقدم في العمر. وقد أصبحت العديد من المختبرات حول العالم متخصصة الآن في
هذه الأبحاث، التي غيرت معتقداتنا حول الدماغ : لا، لا يحدث كل شيء في مرحلة الطفولة
المبكرة، ولكن على العكس من ذلك، يستمر الدماغ في التطور حتى بعد الطفولة (حتى سن 20 أو25). وتعتبر المراهقة مرحلة مهمة للغاية في تطور الدماغ، الذي يكون في أوج إعادة بناء نفسه.
التشابكات العصبية المعقدة
يعمل الدماغ من خلال نقاط الاشتباك العصبي (synapses)، وهي
مناطق اتصال بين خليتين عصبيتين تسمح بمرور الإشارة العصبية. ولفهم تكون الدماغ وتطوره بشكل أفضل، دعنا نعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة، وحتى مرحلة الحمل. في الواقع، تبدأ المشابك
العصبية بالتشكل في وقت مبكر من حياة الجنين داخل الرحم، ثم يزداد عددها بسرعة عند الولادة : حيث يتم بناء 700 إلى 1000 اتصال شبكي جديد في الثانية الواحدة خلال السنوات الخمس الأولى من
الحياة! وهكذا، حتى سن البلوغ، لا تتوقف الخلايا العصبية عن التكاثر والاتصال
وفقًا للتعليم والتجارب الجديدة والوراثة... كل ما يدركه الطفل يبني تشابكا واتصالًا تماما مثل
أغصان الشجيرة التي تنمو في كل الاتجاهات. ومثل الشجيرة التي تحتاج إلى بستاني لقص وإزالة بعض الأغصان حتى تصبح الفروع الرئيسية أقوى. تلعب خلايا معينة دور البستاني
هذا. فبين سن 15 و20 عامًا، سينظف الدماغ نفسه للإبقاء على 300000 مليار فقط من التشابكات العصبية. فقط التشابكات الأكثر
استخدامًا ستبقى وتقوى. وسوف تضعف الأخرى تدريجياً ويتم التخلص منها. ولذلك،
يُعتقد أن تجارب المراهق ستؤثر بشدة على نمو دماغه. بالإضافة إلى ذلك، سيتم الفرز
وفقًا للتردد وليس وفقًا لجودة المعلومات التي تم تلقيها وإعادة إنتاجها : اللغة والسلوك
والثقافة ... فإذا كان المراهقون يلعبون ألعاب الفيديو
طوال اليوم دون تحفيز مناطق أخرى من الدماغ - مثل القراءة أو التفاعل مع الآخرين أو العزف
على آلة موسيقية - فقد يشكل القيام بكل هذه الأشياء لاحقا صعوبة لهم. باختصار، دماغ المراهق يقوي المناطق الأكثر استخدامًا.
المرونة الدماغية والاندفاع
إن عملية تقوية الروابط المشبكية والتخلص من التي لاتصلح لا
تجعلنا أكثر ذكاءً، بل تجعلنا أكثر "تخصّصا": وهذا ما يسمى بالمرونة الدماغية. فبين سن 12 و16، يكون الدماغ في أقصى درجات المرونة مما يجعل هذه الفترة
مفصلاً مهمًا للغاية، بين الإمكانات والضعف. وسيظل هذا النضج الدماغي في التطور ببطء حتى عمر الـ 20 أو 25 عامًا حسب الشخص.
بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي، أصبحنا نعلم أيضًا أن جميع
مناطق الدماغ لا تتطور في نفس الوقت أو بطريقة متساوية. فعند المراهقين، يتم تنشيط
المناطق تحت القشرية (أسفل القشرة) أولاً: وهذا ما يسمى "الدماغ
العاطفي"، وهو يعزز الاندفاع والعواطف. قشرة الفص الجبهي (مقر التفكير
والاستباقية) هي آخر ما ينضج في الدماغ... ولهذا السبب يميل المراهقون إلى التصرف أولاً
والتفكير بعد ذلك. ويتم أيضًا تعزيز البحث عن الإثارة من خلال نظام المكافآت الذي
يتم تنشيطه في هذه المناطق والذي يمكن أن يعزز سلوكيات المخاطرة. كما ترتبط هذه
الاستجابة العاطفية القوية أيضًا بتنظيم لشبكة عصبية في الدماغ التي تتضمن اللوزة الحوفية. وهي مركز الخوف، حيث تحث هذه الأخيرة على إفراز جزيئات الإجهاد مثل الكورتيزول والأدرينالين. وهذا ما يجعل المراهق يعاني تقلبات مزاجية كبيرة ويشعر أنه وحيد في مواجهة عالم معاد.
الدماغ الاجتماعي
يتقلص نشاط "الدماغ الاجتماعي"، وهي مناطق من الدماغ في قشرة الفص الجبهي التي تسمح لنا بالتفكير (فهم الآخرين،
وردود أفعالهم، والتفاعل معهم، وما إلى ذلك)، خلال فترة المراهقة. ويعتقد الآباء أحيانًا أن
ابنهم المراهق يواجه مشكلة في فهم وجهة نظر الآخرين ... وهم على حق! فبعد سن 16 عامًا،
يبدأ استقرار نضج هذه المناطق، المسؤولة عن الوظائف المعرفية ولكن أيضًا عن التحكم في السلوك وتنظيمه، والمخاطرة وردود الفعل العاطفية. فهذا الجزء الأكثر
عقلانية في الدماغ، والذي ينظم القدرة على توقع واتخاذ القرارات مع أخذ الآخرين في الاعتبار،
سوف يتطور تدريجياً، في المتوسط، حتى سن 25 . وفي هذا العمر، سيتمكن الشاب (أخيرًا) من
التفكير بشكل عقلاني أكثر.
أي جهة من الدماغ تفضّل ؟
أجرى ’’ند هرمن‘‘، الباحث في علم الدماغ، اختبارته على أكثر من سبعة آلاف شخص لمعرفة أية جهة من الدماغ يفضلون. فاكتشف علاقة وثيقة بين سيطرة جهة ما من الدماغ والطريقة التي يكسبون بها معيشتهم. واتضح له أن الذين يحبذون استخدام الجهة اليسرى من الدماغ هم غالبا محامون وكتاب وأطباء ومكتبيون وخبراء ضرائب وغيرهم من الذين يتعاطون أعمالا تتطلب لغة وتفكيرا منطقيا.
أما الذين يفضلون استعمال الجهة اليمنى فهم الشعراء والسياسيون والمهندسون والمقاولون والراقصون. ومن دواعي العجب أن يكون كبار الاداريين بين هؤلاء أيضا.
لقد بيّن لنا ’’هارمن‘‘ من خلال دراساته أن الناس الأكثر نجاحا في أي مهنة هم أولئك الذين يستخدمون جهتي دماغهم.
ولمعرفة أي جهة هي أشد سيطرة من الأخرى، لاحظ ’’هارمن‘‘ أنه إذا أدرت رأسك وعينيك إلى اليسار عندما تُطرح أمامك أسئلة تحتاج الى التفكير والتروّي فلديك نزعة الى استخدام الجهة اليمنى. أما إذا التفتّ إلى اليمين فذاك دليل على أنك تفضل عملا له علاقة بالمنطق واللغة.
وهناك اختبار آخر لمعرفة الجهة المسيطرة، يشمل تعليمات لجمع قطع صور مجزأة وتركيبها. فالشخص الموجّه الى استعمال الجزء الايسر من الدماغ يتبع التعليمات خطوة خطوة وينتقل من جملة مكتوبة الى أخرى مثلها. أما الشخص الذي يستعمل الجزء الأيمن فمن الأرجح أن يتغاضى عن التعليمات المكتوبة ويجمع القطع من خلال دراسته الرسم أو الصورة.